منصور رشيد الكيخيا مازال حياّ فى الذاكرة لم يمت بوجهه الصبوح وملامحه الوسيمة وهندامه الحسن وابتسامته الوضاءة، منصور الدبلوماسى والسياسى والمعارض والإنسان، عرف خبايا السياسة والدبلوماسية وحاور وناور وعارض من اجل الوطن وأهله ودفع ثمنا باهضا من اجل ولكل ذلك، ومن البديهى أن يكون منصور كأى شخصية إنسانية اخرى ليس من السهل أخضاعها لمعيار واحد يمكن أن يفسر تفسيرا جامعا كل تصرفاتها ومواقفها شمولا وإحاطة، ولكن تبقى صفة واحدة تميزه عن غيره فى التعامل مع الآخرين، وهى الاعتدال كصفة غالبة كانت تحكم جانبا كبير من حياته وشخصيته وتصرفاته.
عرفت منصور منذ طفولتي كما عرفت وعشت صباي مع بعض آل الكيخيا جيران وأصدقاء ورفاق، فقد كانت بيوتنا متجاورة في شارع عمر بن الخطاب (فيا تورينو)، وكان الدكتور وهبي البورى كلما جاء لزيارتنا يتردد على والده الحاج رشيد الكيخيا، وبالمثل كان يفعل الحاج رشيد ومنصور، كل ذلك مازال ماثلا امامى وفى ذاكرتي، ثم بعد سنوات طويلة التقيته مجدداً وعرفته عن قرب وتحاورت وتناقشت واختلفت معه كثيرا حول اجتهاداته السياسية، ومع ذلك ظل يحمل تقديرا واحتراماً لمن اختلفوا معه وبقى يداوم على زيارتي والالتقاء بى وبالعديد من رفاقى، إلى أن غيبته الايدى ألاثمة والنفوس الشريرة التي لطخت وشوهت ودمرت كل شئ فى الوطن وخارجه، ليس من اجل ليبيا وشعبها ولكن من اجل المحافظة على عرش الدكتاتور النرجسى.
كانت خبرة منصور الدبلوماسية وإجادته لأكثر من لغة اجنبية، وعلاقاته العديدة بالسياسيين والمناضلين العرب والأجانب لسنوات الطويلة، بالإضافة الى عمله بالأمم المتحدة، قد أكسبته خبرة وحنكة ومرونة وفن فى التعامل مع الاخرين وكيفية التخاطب معهم.
وفى إطار القضية الليبية عمل منصور بجهد غير مسبوق من اجل وحدة القوى الوطنية المعارضة، ودون كلل أو ملل رغم كل العراقيل والصعوبات والاختلافات الشخصية والفكرية المتجذرة لدى الكثيرين حتى يومنا هذا، لقد حاور الجميع من كافة الاجتهادات والتوجهات وجلس مع الكبير والصغير واستمع لانتقادات وصلت أحيانا لدرجة المساس بشخصه وأهدافه الوطنية، وتعامل معها بصبر الدبلوماسى ورحابة صدر الانسان المترفع الأمين، بل أن منصور ذهب الى ابعد من ذلك من خلال محاولة العمل حتى فى أوساط أولئك الاشخاص الدائرين فى فلك السلطة من الذين كان على صلة بهم ويعرفهم معرفة جيدة لعلهم يقدمون شيئا ينقذ الوطن من براثن الاستبداد الفردي.
وطنية منصور لم تكن محل تردد ومساومة اطلاقا ولم يفكر يوما أن يستعين بالاجنبى، وإنما كان يقول تعالوا جميعا نتحدث كقوى وطنية بصوت واحد أو على الاقل أن ننسق أدوارنا تجاه الغير، ولعلى اذكر أنه بعد قيام الرئيس الامريكى ريغان بضرب مدينتي طرابلس وبنغازى بالطائرات، حضرمنصور فى زيارة لأخيه فى مدينتى بعد أسابيع قليلة من تلك الحادثة المؤلمة، حيث رتبت له محاضرة ألقاها فى كلية الصحافة بجامعة ميزوي، وحضرها المئات من الطلاب والأساتذة، حيث غصت القاعة وخارجها بالحضور لأهمية الحدث وللاستماع الى وجهة نظرغير امريكية فى هذا الخصوص، وفى المحاضرة استنكر منصور توجيه أى ضربة عسكرية لليبيا مهما كانت الأسباب التى تدعيها الإدارة الامريكية آنذاك، وكنت قد قمت بالمثل في لقاء تليفزيونى (نايت لاين) ثانى يوم الغارة الامريكية لاستنكار هذا العمل، وأكدت أن مهمة تغيير الأوضاع فى ليبيا هي من صميم اختصاص الشعب الليبي وحده، ولا يحق لاى قوى أجنبية أن تقوم بذلك، وتوقع احد اقاربى الأستاذ بجامعة قاريونس والذي صحبني إلى اللقاء التليفزيوني إلا يذاع هذا اللقاء، بسبب حماسى ورفضى الشديد لما وقع على بلادي من استعراض للقوة، وهذا ماحدث بالفعل.
منصور كان يؤمن بالحوار السياسى مع الكل على اعتبار أن ذلك جزء من وظيفة الدبلوماسي المحنك، الذي يسعى لفتح الأبواب المغلقة وتذليل العقبات أمام التواصل حتى بين الأعداء لحل المشاكل القائمة بينهم مع سعى كل طرف لامتلاك عناصر القوة والضغط، وعلى مر التاريخ كان هناك لقاء بين الخصوم والأعداء والمتحاربين لإنهاء مابينهم وتفكيك المشاكل التى تعترض الوصول الى حل، فما بالك بمن يعيشون فى نفس الخندق ويعملون من اجل نفس الهدف، ولا يستطيعون فيما بينهم الاتفاق على آليات العمل الجماعي، وفى هذا الإطار وجدت نفسي اتفق مع منصور فى أشياء كثيرة واختلف معه فى موضوع الحوار مع عناصر السلطة في ليبيا، لان ماهو موجود وقائم هو بكل المقاييس والمعايير العقلية والقانونية والإنسانية والأخلاقية يمثل، حالة شاذة لا مثيل لها فى العصر الحديث، فالقذافى غير مؤهل وغير مؤمن بفكرة الحوار وغير مستعد للحوار، إلا مع القوى الأجنبية القادرة بالفعل على تهديده، وكان هذا واضحا وضوح الشمس كما فرضته عليه أحداث غزو العراق والخوف من تدعايتها على وجوده، أما فيما عدا ذلك وعلى المستوى الوطنى الداخلى فالقذافى هو المتحكم فى كل كبيرة وصغيرة فى البلاد، يصدر قراراته ويفرض سياساته وممارساته بمزاجية متقلبة وعقلية غريبة الأطوار، ولا يستطيع أن يستقر على حال بل هو على استعداد للتضحية بكل من حوله، من اجل نفسه واستمرار سيطرته على البلاد والعباد.
وفى ذكرى تغييب منصور ما أحوجنا إلى أن نسمو جميعا دون استثناء على خلافاتنا الشخصية ونتجاوز اختلافاتنا الصغيرة، التي تتضأل أهميتها وقيمتها تجاه ماحل ببلادنا على امتداد اكثر من اربعة عقود مضت، ومايحدث ألان وما قد يحدث فى الغد، فالبلاد منهوكة القوى مضعضعة الكيان تحتاج الى جهد وعمل كل مخلص ومحب داخل الوطن وخارجه، وبالتالي فأن اى انقسام بين القوى الوطنية لن يصب في مصلحة الوطن ولا أهله